،عن التاريخ الذي لا ننساه أكتب إليكم تلك الكلمات
بالعودة إلي منتصف ثمانينات القرن المنصرم، ومع الارتفاع الملحوظ للنبرة الوهابية للخطاب الديني السائد في مصر، ذلك الخطاب الذي امُتهر بأموال البترودولار الطائلة التي بدأت في التدفق مع الموجة الثانية لرياح الانفتاح الاقتصادي الذي أقر سياساته صاحب دولة "العلم والإيمان" الزعيم المؤمن أنور السادات. وكان طبيعياً أيضاً أن يحتل الزي الشرعي "الحجاب" نصيب الأسد من ذلك الخطاب. هنا بدأت البذور الأولي للجريمة! لم تكن الجريمة في الحجاب في حد ذاته، أو في الجدل الذي أثير حول كونه فرضاً واجباً أو غير ذلك، إنما كانت في اللهجة الترهيبية التي اعتمد عليها هذا الخطاب والتي رسخت لثقافة التمييز المجتمعي للأنثي وفقاً لعدد قطع القماش التي ترتديها! ولعل من عاشوا تلك الأيام -السوداء- يتذكرون جيداً الشيخ عبدالحميد كشك وخطبه العصماء عن الضرورة الشرعية للحجاب، ليس فقط من واقع القرآن أو السنة، إنما من واقع التمايز عن النصرانيات المتبرجات! أكرر، من هنا بدأت الجريمة.
أخذ الشحن النفسي والتجييش الروحي في الاستمرار جراء هذا الخطاب العنصري، حتي أتت ثماره الشيطانية الأولي في بداية التسعينيات مع مشاهدة الشارع المصري لأولي وقائع مضايقة الفتيات والسيدات غير المحجبات "التحرش الجنسي"، وكان المستهدف آنذاك هن المسلمات المتبرجات لترهيبهن وإلزامهن بالزي الشرعي. وإن كان الشارع المصري عرف تلك الظاهرة في بداية التسعينيات، فالجامعة المصرية قد سبقته إليها منذ بداية السبعينيات عندما كان الأمن يغض الطرف ويرعي حوادث الاعتداء البدني واللفظي علي الطلبة المعارضين للنظام وبالأخص اليساريين من قبل أبناء الجماعة الإسلامية آنذاك. في السبعينيات تم ضرب البنات الجامعيات الناشطات وسحلهن من شعورهن، في السبعينيات تم ضرب الطلبة داخل الحرم الجامعي بالمطاوي والجنازير بمباركة الأمن، وهو نفس الموقف الذي اتخذه الأمن أيضاً عندما مورست الجريمة نفسها في الشارع في التسعينيات، موقف غض الطرف والمباركة.
وإن كان المستهدف سابقاً غير المحجبات، فإن الضحايا اليوم هن المنتقبات والمحجبات وغير المحجبات، القصر والعجائز والحوامل.
اؤمن جيداً أن ثقافة التمييز ونظرة الفرز للآخر هي أم كل الجرائم الأخلاقية التي ارتكبت في التاريخ الإنساني قاطبة، خصوصاً تلك التي تمارس بحق الحلقات الاجتماعية المستضعفة كالأقليات العرقية والدينية والأطفال والنساء. لذلك فالانشغال بتقييم أخلاق الأنثي واحتشماها بناءاً علي ما ترتديه هو ما يفتح الباب لاحقاً لتقييمها اخلاقياً بناءاً علي أسلوبها في التحدث بل والنظر وحتي المشي علي قدميها. حتي تأتي المرحلة الأكثر خطورة، وهي مرحلة الاستباحة، استباحة التصدي للساقطات معنوياً ولفظياً وبدنياً لردعهن وتطهير المجتمع من جانب، ومن جانب آخر معاقبتهن عما يقترفن بحق ذكورنا الأبرياء، ومن جانب أصدق تفريغ كبت مرضي لا ذنب للأنثي فيه سوي إنها خلقت في مجتمع يعاني من ثقافة الفرز والتبرير والاستباحة.
من المعروف في فلسفة التشريع القانوني، أن تآثيم الضحية هو أحد أهم وسائل تخفيف العقوبة وإيجاد المبررات للجريمة المرتكبة، وعليه فإنني استطيع أن أنعت كل الدعاوي التي تلقي اللوم علي الأنثي ولو بنسبة 1% في جرائم العنف الجنسي، بالدعاوي الإجرامية، بل وكل المروجين إليها بالمتحرشين.
ببساطة، المتحرش هو ذلك الشخص الذي يستهل حديثه عن التحرش بجملة "أصل البنت" ثم يبدأ في تكييل الاتهامات جزافاً للضحية عن محاولاتها لإثارة غرائزه الحيوانية البائسة، متناسياً عن عمد، أن الأصل في الجريمة لا يمكن أن يكون الضحية إلا في حالة التبرير! لذلك لا يتسق أن تكون الأنثي الضحية هي الأصل، إنما الخطاب الإعلامي والثقافي والمجتمعي والديني المهيأ للفرز والتبرير والاستباحة.
آخيراً وليس أخراً، أسوق لكم بعض من التساؤلات التي طالما رددناها علي مسامع المتحرشين المعنويين -وربما في بعض الحالات البدنيين-، إن كان التحرش بسبب زي البنت، فلماذا يتم التحرش بالمنتقبة؟ والتي ترتدي الإسدال والخمار؟، إن كان التحرش بسبب الكبت الجنسي وتأخر سن الزواج، فلماذا يمارس التحرش في الأعياد الدينية الفتيان من الفئة العمرية التي تتراوح بين 12 و16 عاماً؟ ولماذا يمارس التحرش كبار السن ممن فوق ال40 عاماً؟، وإن كان التحرش بسبب المستوي المادي، فلماذا يمارس التحرش مدير البنك والأستاذ الجامعي؟، وإن كان التحرش بسبب انخفاض الثقافة الدينية، فلماذا يمارس التحرش رجال الدين؟!. ختاماً، وكما أقول دائماً: "المبرر الوحيد للتحرش، هو إنك متحرش".